منهجية تحليل قصيدة تنتمي إلى تيار إحياء النموذج | كتابة موضوع إنشائي حول نص شعري تطبيقي
ظهر اتجاه إحياء النموذج الشعري بمصر في منتصف القرن (19م)، وعمل أصحابه على إحياء شعر أسلافهم، واستلهام ما تميز به ذلك الشعر من قيم وأفكار وتمثلات من حيث المضمون، وما اتسم به من تقاليد فنية وجمالية من حيث الشكل. ويعتبر أحمد شوقي واحدا من أبرز الشعراء الذين اضطلعوا بهذا الدور، ويتضح ذلك جليا في هذا النص الذي هو عبارة عن معارضة لقصيدة "البُردة" للشاعر العباسي شرف الدين محمد البوصيري. وبالاستناد إلى مجموعة من المؤشرات المرتبطة بهذا النص، من قبيل: (صاحبه، عنوانه، تصديره، شكله الخارجي، مطلعه... ) يتضح أنه نص إحيائي بامتياز. وإذ يكن الأمر كذلك، فإلى أي حد استطاع هذا النص أن يجسد خصائص ومقومات ذلك الاتجاه ؟
على عادة الشعراء العرب القدامی، استهلّ الشاعر قصيدته بمقدمة غزلية عبّر فيها عن معاناته وصبره مع حبيبته التي عذبته بجمالها ودلالها وإساءتها أيضا. وبعد هذه المقدمة، انتقل إلى موضوع آخر، نحا فيه منحى حكميا، حيث تحدث عن النفس وغوايتها وطريق إصلاحها؛ مشيرا إلى أنّ الدنيا خادعة، وفيها تنخدع نفسنا البشرية بملذاتها الزائلة. وها هنا لم يستثن الشاعر نفسه، فقد أشار إلى أنه استمر في ارتكاب الذنوب والمعاصي حتى وقت متأخر من عمره، فكانت النتيجة الحسرة والندم، وكان المطلوب الدعوة إلى إصلاح النفس وتقويمها بالأخلاق. ومن هذين الغرضين التمهيديين، انتقل الشاعر إلى الغرض الأساسي، وهو مدح الرسول (ص) وآله وصحبه، بحيث خص النبي عليه السلام بصفات خلقية (كالجمال وحسن الطلعة)، وأخرى خُلُقية (كالرحمة، والشرف، والخير، والكرم، والرفعة، والشجاعة). كما خصّ آل البيت ببعض الصفات الحميدة (كشرف خدمة البيت الحرام، وبشاشة الوجه، والحَمِيّة، وعزة النفس)، وخص الصحابة رضوان الله عليهم بحسن الصحبة والمعاشرة للنبي (ص). وهكذا إلى أن اختتم قصيدته بالتوجه إلى الله تعالى بالدعاء من أجل الأمة الإسلامية؛ وذلك باللطف والعودة إلى سالف العهد المجيد والمآل إلى حسن الختام.
ولعله من الواضح أن "المضمون" في هذه القصيدة، يقوم على تعدد الأغراض والموضوعات، وأن الانتقال من غرض إلى آخر، كان يتم بنوع من حسن التخلص، هذا فضلا عن براعة الاستهلال وحسن الاختتام. وكلها معطیات دلالية تميز القصيدة الإحيائية والتراثية على حد سواء.
ولخدمة هذه الأغراض المتعددة التي عبّر عنها الشاعر أحمد شوقي في القصيدة، اختار "معجم النص"، الذي يمكن تصنيفه إلى ثلاثة حقول دلالية:
* حقل النفس والدنيا: نفس، دنياك، مبكية، الزمان، إساءتها، جرح، يبكي، الأماني، الأحلام، مسودة الصحف، مبيضة اللمم، هامت، اللذات، تهم.
* حقل المدح: صفوة الباري، رحمته، بغية الله، سناؤه، سناه، آياته، جدد، البدر، حسن، شرف، البحر، خیر، کرم، شم الجبال، الأنجم الزهر، الليث، بأسا، نخب، بيض الوجوه، شم الأنوف، صحبتهم مرعية الحُرم.
◄ حيث تجمع بين هذه الحقول الثلاثة علاقة تكامل وانسجام؛ لأن الغزل جزء من ملذات الدنيا و غواية النفس، ومدح الرسول (ص) وآله وصحبه وتخصيصهم بصفات حميدة هو بداية التوبة وخطوة أولى إلى طريق إصلاح النفس وتقويمها.
وانطلاقا مما سبق، نستخلص أنّ معجم النص يعتمد مدونة معجمية جاهزة؛ لتوظيفه ما تناثر في النص الشعري القديم من كلمات وعبارات عتيقة لم تعد متداولة، كما أنه معجم يتسم بالجزالة والقوة والفخامة والمتانة... وكلها سمات تنطبق على معجم النص الشعري الإحيائي.
- الوظيفة الوصفية: وتتجلى في وصف جمال الحبيبة، والحالة الذاتية للشاعر، والخصال الحميدة للممدوحین.
- الوظيفة التعبيرية: وتكمن في التعبير عن حالات الإعجاب والألم والندم.
ومن الصور الواردة في النص، نذكر نماذج الصور التشبيهية، والاستعارية، والكنائية التالية:
سناؤه وسناه الشمس طالعة **** فالجرم في فلك والضوء في علم
◄ صورة تشبيهية: يشبه فيها الشاعر النبي (ص)، في رفعته وضيائه، بالشمس الطالعة. ولعل وجه الشبه بين الطرفين هو: علو المنزلة وانتشار الضوء.
ريم على القاع بين البان والعلم **** أحلّ سفك دمي في الأشهر الحرم
رمى القضاء بعيني جوذر أسدا **** يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم
◄ صورة استعارية: وفيها استعار الشاعر لفظتي "الريم" و "الجوذر" للدلالة على المرأة الجميلة الناعمة، وذلك على سبيل الاستعارة التصريحية، كما استعار لفظة "الأسد" للدلالة على نفسه بوصفه رجلا قويا وخشنا، وذلك على سبيل الاستعارة التصريحية أيضا.
بيض الوجوه، ووجه الدهر ذو حلك **** شم الأنوف، وأنف الحادثات حمي
◄ في هذا المثال صفتان مدح بهما شوقي أتباع الرسول (ص)، وهما "بيض الوجوه" كِناية عن أنهم قوم يتفاؤل بهم، ويسعد المرء بلقائهم، و"شم الأنوف" كِناية عن أنهم ذوو رفعة وشرف وسمو.
ولا شك أن هذه الصور، وبتلك المواصفات، ذات علاقة وطيدة بالتصوير الشعري عند العرب القدامى، وهذا النمط من التصوير هو ما عمل الكلاسيكيون - ومنهم شوقي - على إحيائه وتقليده والمحافظة عليه.
وفيما يتعلق بـ"الإيقاع"، يمكن التمييز بين نوعين أساسيين: خارجي، وداخلي.
أ- الإيقاع الخارجي: ونرصده بمعالجة المكونات التالية: (الوزن - القافية والروي - التصريع).
- الوزن: ويتمثل في البحر الشعري الذي نظمت عليه القصيدة (بحر البسيط = مستفعلن فاعلن) وهو من البحور الطويلة (8 تفعيلات) والممزوجة (المزج بین تفعيلتين مختلفتين). وهاتان الصفتان تتناسبان مع موضوعات النص، لأنها متمازجة بدورها، وتحتاج إلى طول نفس من الشاعر للتعبير عن حالات متنوعة من التأثر والمعاناة والإعجاب...
كما أنّ الزحافات والعلل ساهمت من جهتها، في إثراء الجانب الموسيقي للنص؛ حيث وردت تفعيلتي مستفعلن فاعلن تارة صحيحتين، وتارة مخبونتين. وهكذا أسفر زحاف الخبن (حذف الثاني الساكن) عن قيمة إيقاعية مضافة تتمثل في تكسير رتابة التفعيلة الصحيحة، وتسريع وتيرة الإيقاع.
- القافية والروي: فـ"القافية" مكون إيقاعي آخر ينضاف إلى "الوزن"، ويعزز رصيد الإيقاع الخارجي. وقد جاءت، في هذا النص، مُطْلَقة (لأن رويها متحرك)، ومُتَراكِبَة لتضمنها ثلاثة حروف متحركة بين ساكنيها (ر لحرمي: /0///0)، وهذا ما منح النص وتيرة إيقاعية سريعة تتناسب مع حالة التقلب السريع في المشاعر والانفعالات المعبر عنها في النص.
أما "الروي" فهو عبارة عن حرف صحیح (الميم)، تكرر على امتداد القصيدة، مما ساهم في إغناء إيقاعيتها، وهو كصوت شفوي ومجهور مائع يتناسب والحالة النفسية للشاعر في النص.
- التصريع: ويتمثل في البيت الأول من القصيدة:
حيث ائتلف آخر شطري البيت على حرف واحد هو "الميم"، وهذا بدوره يسهم في إثراء موسیقی النص.
ب- الإيقاع الداخلي: ويقوم أساسا على ظاهرتي: التكرار، والتوازي.
ويمكن رصد "التكرار" من خلال ما يأتي:
* تكرار الحروف: وذلك من قبيل: (الميم، الجيم، العين) و(السين، الشين، الصاد). فالحروف الثلاثة الأولى تكثر أساسا في تعبير الشاعر عن الغرض الأول والثاني في القصيدة، وهي من الأصوات المجهورة، وسمة "الجهر" ها هنا، تنسجم مع الغرضين؛ باعتبارهما جهرا وتعبيرا صارخا عن الألم والمعاناة من جفاء الحبيبة و غواية النفس. أما الحروف الثلاثة الأخيرة، فتكثر في غرض "المدح"، وهي أصوات مهموسة، وصفة "الهمس" تنسجم مع الإحساس بالانشراح الذي يرافق المديح النبوي، بوصفه طقسا تعبديا من حيث المبدأ.
* تكرار المدود الصوتية: ( ا – ى – و ) مثل: "ريم على القاع، البان، دمي، القضاء، يا ساكن، القاع، لما، رنا، حدثتني...". فهذه المدود، التي تتردد أكثر في الغرضين التمهيديين، هي عبارة عن أصوات طويلة، أو بالأحرى تجعل الصوت يمتد ويطول، بما یعکس ألم وأنين الشاعر من سوء معاملة الحبيبة والإحساس بالذنب بسبب غواية النفس.
* تكرار الكلمات: ومن تجلياته:
- تكرار الترادف: وهو أن تتكرر الكلمة بمدلولها لا دالّها، ومن أمثلته في النص: (العتق = القدم) - (الأماني = الأحلام) - (هبت = استيقظت) - (منية = رقدة العدم)...
- تكرار الاشتقاق: وهو أن تتكرر الكلمة بمشتقاتها المتنوعة، ومثاله في النص: (نائما : ينم) - (يدعها : داعي) - (سناؤه : سناه) - (انصرمت : منصرم) - (واسمتها : تسم) - (الصحب : صحبتهم) - (آدم : الأدم)...
* التكرار في الصياغة والجمل: ويمكن ملاحظته في هذه الصيغ التعبيرية: (ساكن القاع / ساكن الأجم) - (مسودة الصحف / مبيضة اللمم) - (بيض الوجوه / شم الأنوف)... وفي تكرار عبارة "يا رب" ثلاث مرات في أواخر النص.
أما "التوازي"، بما هو تناظر بين متتاليتين لغويتين (أو أكثر)، فيمكن تتبعه في الأبيات التالية: (13-16-17-21-23). فكل من هذه الأبيات يتضمن نوعا أو آخر من أنواع التوازي، وذلك كما يلي:
* التوازي الصرفي-التركيبي: ومثاله الشطر الثاني من البيت (13): "فالجرم في فلك = والضوء في علم".
* التوازي الصوتي-الإيقاعي: ومثاله البيت (16) الذي يتضمن التقابلات الإيقاعية التالية:
"البدر دونك في حسن وفي شرف = البحر دونك في خير وفي كرم"
* التوازي المعجمي-الدلالي: وذلك بنوعيه:
- التوازي الدلالي القائم على التناسب: كما ورد في الببيت (21): بيض الوجوه = شم الأنوف / ووجه الدهر ذو حلك = وأنف الحادثات حمی
◄ التناسب في دلالة الكل على الخير.
- التوازي الدلالي القائم على الترادف: كما جاء في البيت (23): هبّت شعوب من منيتها = استيقظت أمم من رقدة العدم
◄ العلاقة الدلالية: "الترادف".
من هنا يتّضح إذن، أنّ التكرار والتوازي، يحققان الوظيفة الإيقاعية للنص الشعري، وذلك باسهامهما في تشكيل الإيقاع الداخلي، لكنهما لا ينحصران في كونهما ظاهرتين ايقاعيتين فقط، وإنما يلعبان وظائف أخرى تخدم النص الشعري، وهي:
- الوظيفة التأثيرية: ذلك لأن أول ما يثير انتباه المتلقي في الشعر، ويؤثر فيه هو جانبه الإيقاعي.
- الوظيفة الإقناعية: فالتكرار والتوازي معايشتغلان على ترديد نفس الملفوظات أو ما شابهها، والشيء إذا تكرر تقرر، وبالتالي اقتنع به المتلقي.
- الوظيفة التنظيمية: وهي تنطبق على "التكرار" باعتباره أحد أدوات الربط المعنوي.
ولا شك أنّ الصلة وثيقة بين الإيقاع المعتمد في النص بنوعيه: الخارجي والداخلي، ونفسية الشاعر وأفكاره، كما أن مظاهر التقليد وسمات المحافظة على الموروث الإيقاعي بادية بشكل واضح أيضا في هذا النص، سواء من خلال الإبقاء على وحدة الوزن، ووحدة القافية والروي، وتوظيف ظاهرة "التصريع" في الإيقاع الخارجي، أو اللجوء إلى آليتي: "التكرار" و"التوازي" في الإيقاع الداخلي.
أما الأسلوب في هذا النص، فيمكن رصد معطياته، ووظائفها كما يلي:
* النداء: يا ويح نفسي - يا ويلتاه - يا نفس - يا رب ...
* الأمر: صلّ، سلّم، أهد، الطف، تمّم ...
* النّهي: لا تزد، لا تسم ...
* الجمل الفعلية: أحل، رمی، رنا، جحدتها، كتمت، تخفي، بدا، يفنى، يبقى...
* الجمل الاسمية: محمد صفوة الباري - سناؤه وسناه الشمس طالعة آياته – البدر دونك في حسن...
مما سبق، نستطيع أن نخلص إلى أنّ هذا النص يتميز بالخصائص التالية:
- المحافظة على البناء التقليدي للقصيدة: (مقدمة غزلية - غرض أساسي).
- إعادة إنتاج نفس الأغراض الشعرية القديمة وتنويعها: (غزل - حكمة - مدح).
- استقلال كل بيت تقريبا بمعناه، وغياب ما يعرف بـ"الوحدة الموضوعية".
- استلهام نفس القيم الثقافية والأخلاقية التي كانت سائدة في الشعر العربي القديم (الحب، الدلال، الجفاء، المعاناة، الشرف، الكرم، الشجاعة...).
- اعتماد مدونة معجمية جاهزة، وبسماتها المعهودة من: جزالة، وفخامة، وقوة، ومتانة...
- الحفاظ على ظواهر إيقاعية تراثية من: وحدة الوزن، والقافية والروي، والتصريع.
- توظيف صور شعرية من المحفوظ الشعري، والإبقاء على تقاليدها الجمالية المتوارثة.
- نهْج أسلوب "المعارضة"، وذلك من خلال تقليد ومحاكاة "أحمد شوقي" الشاعر العباسي "شرف الدين محمد البوصيري" في قصيدته (البردة)، وقد شمل التقليد الوزن، والقافية والروي، والموضوع والمعاني.
وهذه الخصائص كلها تعكس بامتياز، انتماء النص إلى "الاتجاه الإحيائي"، وهذا ليس بغريب أو صعب على "أحمد شوقي"، الذي يظل آخر أعمدة هذا الاتجاه، وأحد أبرز رموزه الكبار بدون أي منازع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق