◄ تمهيد:
عندما نتحدث عن التطور في الشعر العربي الحداثي، فإننا في الغالب ما ننتبه إلى الجوانب الشكلية التي تجاوز فيها هذا الشعر القصيدة العربية التقليدية، وبخاصة منها الجانب الإيقاعي، غير أنّ الواقع الحقيقي الذي ميّز هذا الشعر ليس هو الجانب الشكلي، ولكنه ما يعرف عند الشعراء بالرؤيا الشعرية، وهي نظرة الشاعر إلى القضايا التي تحيط به وبأمّته وبمحيطه عموما. وفي هذا النص يحاول الناقد علي جعفر العلاق الوقوف عند مفهوم الرؤيا الشعرية وخصائصها...
І- ملاحظة النصّ:
1) صاحب النص:
علي جعفر العلاق: شاعر وناقد عراقي من مواليد 1945م، حصل على شهادة الدكتوراه في الأدب الحديث، عمل رئيسا لتحرير مجلة ”أقلام“ العراقية، له مجوعة من الأعمال الشعرية منها: ”لا شيء يحدث ..لا شيء يجيء“ ”وطن لطيور الماء“ ”فاكهة الماضي“.
2) نوعية النص ومصدره:
نص نظري يعالج بنية مفهوم الرؤيا في الشعر العربي الحديث، وهو مأخوذ عن كتاب ”في حداثة النص الشعري“، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط 1، 1990، ص: 11-26 بتصرف.
3) ملاحظة العنوان:
يتكون العنوان من أربع كلمات مقسمة إلى جزأين، بينهما مجموعة نقط يمكن أن تفهم على أنها تساوي أو تعادل: حداثة النص = حداثة الرؤيا.
4) الفرضية:
انطلاقا من المشيرات السابقة نفترض أن الكاتب يلمح إلى أن حداثة النص لا يمكن أن تكون إلا بحداثة الرؤيا.
ІІ- فهم النّص:
* القضية العامة المطروحة في النص:
مفهوم الرؤيا الشعرية وخصائصها في الشعر العربي الحديث.
* الأفكار الأساسية المكوّنة للقضية:
- جوهر التجديد في الشعر العربي الحديث هو الرؤيا الشعرية.
- تركيز الرؤيا الشعرية على تجديد الشاعر من حيث الوعي والثقافة والذوق.
- الشعر الذي يتوفر على رؤيا شعرية ويقدم صورة عن وعي الشاعر بنفسه وبالعالم الذي يحيط به يكون مقروءا.
- ما يميز الرؤيا الشعرية هو ما فيها من كشف وفاعلية وجمع بين العناصر المتناقضة.
- تميز الرؤيا الشعرية بالنظر إلى الواقع من زوايا متعددة لتتمكن من اقتناص جوهره المتحرك.
- الرؤيا الشعرية لا تنضج إلا بعد طول عناء ومكابدة.
- الرؤية الشعرية لا ترقى إلى المستوى الأعمق والأشمل إلا حين يلتقي فيها الخاص والعام في مزيج مؤثر.
- من خصائص الرؤيا أنها تمتد عبر أعمال الشاعر ككل.
- الرؤيا الشعرية يجب أن تستند إلى قضية جوهرية.
- ارتباط الرؤيا الشعرية ارتباطا حميميا بالشكل التعبيري واتصالها بمجموعة من الرموز الشخصية للشاعر.
ІІІ- تحليل النص:
1 - المعجم:
لخدمة القضايا المطروحة في النص، استعمل الكاتب معجما يتوزع بين أربعة حقول دلالية، هي:
* حقل الرؤيا الشعرية: (الرؤيا الشعرية - الرؤيا الحديثة - فعل التجليد - رؤيا شعرية - مشروعا الرؤيا - شعرية هذه لرؤيا – الرؤيا الراسخة...).
* حقل الشكل الشعري: (الثراء الجمالي - حيوية الشكل - استطرادات - منهج شعري - شكل تعبيري...).
* حقل الشاعر: تجديد الشاعر - رعي - ثقافة - نظرة إلى العالم - عناء ومكابدة - عذاب المعرفة - وتر منفرد - حرارة فردية - هم شخصي - رموز شخصية...).
* حقل المجتمع: (الواقع - أنين عام - أنين البشر - الهم العام - صوت إنساني - شأن عام - قضية جوهرية...).
◄ والعلاقة بين هذه الحقول هي علاقة ترابط وتكامل؛ حيث يكمل بعضها بعضا، فالرؤيا الشعرية تظل ناقصة مالم يساندها شكل تعبيري جديد متميز، والرؤيا أيضا لا ترتبط بذات الشاعر الفردية فحسب، بل هي رؤيا جماعية يحاول الشاعر من خلالها الانصهار في هموم المجتمع وقضاياه.
2 - خصائص الرؤيا الشعرية ومبادئها:
يحاول الكاتب في هذا النص، التنبيه إلى نقطة أساسية في الشعر الحداثي المعاصر يغفل عنها الكثيرون، وهذه النقطة تفيد بأن التجديد الأساسي في الشعر ليس في جوانبه الشكلية فحسب، ولكنه في توفره على ما يسمى الرؤيا الشعرية؛ أي أن الشاعر لا ينبغي أن يقف عند نظام السطر الشعري والتنويع في القافية والروي وجعل اللغة بسيطة، ولكن عليه أن يعبر عن محيطه وأن يتجاوب مع أحداثه، وهذا أمر لا يتحقق لكل من يكتب الشعر، ولكنه يتحقق فقط للشاعر الذي يمتلك حسّاً شعريا رفيعا وثقافة واسعة. ولهذا السبب يرى الكاتب أن الشعراء المقروئين في هذا المرحلة هم الشعراء الذين يمتلكون رؤيا شعرية رغم بعض الضعف الذي قد يعتري قصائدهم.
كما يطرح النص أيضا مجموعة من مبادئ الرؤيا الشعرية نذكر منها: تركيزها على الشاعر وليس على الشعر، فهذا الشاعر يجب أن يعاني ويكابد لكي يطور رؤيته الشعرية حتى تصبح ناضجة، كما أن الرؤية الشعرية السليمة هي التي يلتقي فيها العام بالخاص: فقد يظهر الشاعر وكأنه يتحدث عن قضية شخصية، ولكنه سرعان ما يتبين أن ما كان يعالجه في النص هو خاص بالآخرين.
3 - طريقة بناء النص:
اعتمد الكاتب في عرض القضية موضوع النص بناء منهجيا يقوم على الطريقة الاستنباطية؛ حيث استهل الكاتب نصه بالحديث عن الرؤيا الشعرية باعتبارها أهم إنجاز على مسوى حداثة القصيدة العربية، ثم انتقل بعد ذلك للحديث عن علاقة هذه الرؤيا بالشاعر المبدع، وبالقارئ المتلقي، وبالواقع المعيش، مشيرا إلى شروط نضجها وارتقائها للمزج بين التجربة الذاتية والتجربة الجماعية، وامتدادها لتشمل أعمال الشاعر كلها، بالإضافة إلى ارتباطها بمجموعة من الرموز والأساطير الشخصية، ممثلا لذلك بعض النماذج من الشعر العربي المعاصر.
4 - أساليب النص:
لتوضيح أفكار النص ومحاولة إقناع المتلقي بصحتها، عمد الكاتب إلى توظيف مجموعة من وسائل التفسير والحجاج، نحددها كالتالي:
* التعريف: وهو ما نلمسه في تعريف الكاتب للرؤيا الشعرية، حيث يقول: «وتشكل الرؤيا الشعرية في حقيقة الأمر، مسعى يستهدف الشاعر لا القصيدة».
* التفسير: "أيْ أنها تُعنى بتجديد الشاعر أولا: وعيا، وثقافة، وذائقة، ونظرة إلى الحياة والعالم، قبل أن تُعنى بتجديد النص".
* المقارنة: وتتجلى في مقارنة الكاتب بين موقفين يرتبطان برؤية الشاعر للواقع، حيث يقول: «فحين يحجب الموقف الأول ما في الواقع من حيوية ونبل کامنين، لا يتيح لنا الموقف الآخر أن نرى ما قد يتفجر تحت بنائه الظاهري من تصدع ونفاق».
* التمثيل: وهو ما نلاحظه حينما يلجأ الكاتب إلى تقديم أمثلة فيما يخص شعراء الرؤيا في الشعر العربي الحديث، فيذكر السياب، والبيان، وأدونيس، كما يسوق أمثلة تتعلق برموزهم الشخصية فيذكر: جيكور، وبويب، ومهيار، والصقر، وعائشة.
* الاستشهاد: : ويظهر ذلك في استشهاد الكاتب برأي أدونيس الذي يشير فيه إلى ضرورة المواءمة في الرؤيا الشعرية بين الهم الخاص والم العام، وهذا الرأي مأخوذ من كتابه "مقدمة الشعر العربي"، دار العودة، بيروت 1971، ص: 122.
ويتعزز البعد التفسيري والحجاجي في النص كذلك باللجوء إلى مجموعة من الوسائل اللغوية، نذكر منها:
- اللغة التقريرية المباشرة: وهي لغة تميل إلى البساطة في التعبير، وتبتعد ما أمكن عن الإيحاء والالتواء اللغوي، وهذا راجع إلى الطابع الموضوعي للنص الذي يستلزم توضيح الفكرة أكثر من العناية بجمال الصياغة.
- أسلوب التوكيد: ومن أمثلته في النص : (إنّ أهم ما أنجز، إنّ الرؤيا الشعرية، إنّ الشاعر ذا الرؤيا ، إنّ الكثير من شعرية هذه الرؤيا...).
- أسلوب النفي: ومن أمثلته في النص: (لا يمكن في خروجها، لا ترى من الجيل سفحه فحسب، لا تراه من منظور ثابت، لا تنضج الرؤيا الشعرية، لا ترقى إلى مستواها الأعمق، ليست دمعة أو قطرة من المطر...).
- أسلوب التفضيل: ويبدو ذلك من خلال الأمثلة التالية : (أهم، أشد، الأعمق، الأشمل...).
- أدوات الربط: وتتمثل هذه الأدوات بالأساس في حروف العطف (الواو، أو، بل، ثم، لا، ...)، وبالإضافة إلى هذه الحروف هناك أدوات أخرى تتيح للكاتب الانتقال من فكرة إلى أخرى، ومن فقرة إلى أخرى، ونسوق من هذه الأدوات - على سبيل المثال - ما يلي : (أي، في اعتقادي، من جهة... من جهة أخرى، إذ، كما لذلك، هكذا...).
ІІІІ- تركيب وتقويم:
استنادا إلى ما سبق، نستنتج أن الكاتب يعالج في النص مفهوما أدبيا هو مفهوم "الرؤيا الشعرية" الذي يعتقد اعتقادا جازما بأن حداثة النص الشعري لا تتحقق إلا من خلاله، كما نستنتج أن منبع هذه الرؤيا لا يخرج عن ثلاثة أشياء: الشاعر باعتباره ذاتا واعية بنفسها وما حولها، وقادرة على محاورة الواقع وخلخلته، والإجابة عن أسئلته المقلقة، والتعبير عن كل ذلك بوسائل فنية خاصة. ثم الواقع باعتباره بؤرة للقلق والحركة والتردد والتناقض. وأخيرا الشاعر والواقع معا في تفاعل مستمر، وتأثير أحدهما في الآخر، واحتضانه له.
وقد اعتمد الكاتب في عرضه لقضيته المنهج الاستنباطي الذي يتدرج من العام إلى الخاص، أما وجهة نظرة في الموضوع فقد وضحها ودافع عنها باعتماد أساليب تفسيرية وحجاجية تتوزع بين التعريف والمقارنة والاستشهاد والتمثيل، بالإضافة إلى الاستعانة بمجموعة من الوسائل اللغوية كالأسلوب التقريري، وأسلوب التوكيد، وأسلوب النفي، وأسلوب التفضيل، وأسلوب التكرار، وأدوات الربط.
وإذا كان الكاتب في كل ما سبق قد نجح إلى حد كبير في تقديم تصوره النظري حول الرؤيا الشعرية وتوضيحه والدفاع عنه، فهذا لا ينفي أننا نختلف معه في فهمه للحداثة الشعرية بشكل عام؛ فإذا كان يحصر هذه الحداثة في تجديد الرؤيا فقط، فإننا نضيف إلى ذلك أن هذه الحداثة تتعزز كذلك بتجديد الشكل، بل إن التجديد في الرؤيا ما كان ليتم لولا التجديد في الخصائص الشكلية كالإيقاع والمعجم والصورة والتركيب... خصوصا وأن هذه الخطوة كانت من توقيع شعراء كبار أمثال بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة... وغيرهم.
شكرا جزيلا استاذ تستحق كل الاحترام والتقدير على هذا المجهود .
ردحذفشكرا مجدداً❤️