جاري تحميل ... مول لعربية - Mol L3arbiya

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

أولى آداب وعلوم إنسانية

الحريري والكتابة الكلاسيكية - ملخص الدراسة الثانية في القسم الثاني من مؤلف الأدب والغرابة







* الاسم والنمط:

من الأشياء التي تسترعي الانتباه عند قراءة مقامات الحريري ندرة الأسماء الشخصية. إذا استثنينا مجموعة من الأسماء التاريخية أو الخرافية سنتكلم عنها فيما بعد، فإننا لا نكاد نجد إلا اسمين شخصيين اثنين: الحارث بن همام وأبو زيد السروجي. أما باقي الشخصيات، فلا تحظى إلا بتسميات عامة كالابن والزوجة والقاضي والأمير إلخ. وهذا يعني أن الشخصيات الفردية تذوب في الأنماط الإنسانية.

هذه الظاهرة ليست عرضية أو تافهة. قبل الشروع في تحليلها لا بد من الاشارة إلى بعض الأنواع التي تبرز خاصيات متعارضة.

كتب التاريخ: من الواضح أن مادة المؤرخ تتكون من الحدث ومكان الحدث وتاريخ (توقيت الحدث وكذلك من أسماء المشاركين في الحدث. فيكفي مثلا أن نتصفح الكامل لابن الأثير لنتبين وفرة الأسماء الشخصية في كل صفحة من صفحات الكتاب.



كتب الحديث: الإسناد يمتاز بطوله أي بكثرة الأسماء الموردة فيه. وبما أن صحة الحديث مبنية على أمانة ناقله، فقد ألفت عدة كتب موضوعها التنقيب في حياة الرواة، وهذا التنقيب يدرس أفراداً لا أنماطاً إنسانية.

كتب الأخبار: نلاحظ فيها أيضا كثرة الأسماء. انظروا مثلا كتاب البخلاء: الجاحظ لم يرسم البخل ولا البخيل وإنما أعطى صورة لبعض البخلاء، وتبعاً لذلك نستطيع أن نقول إن شخصياته تمتاز إلى حد كبير بخاصيات فردية.

الشعر القديم: هذه الأنواع التي أشرنا إليها بسرعة تمتاز بالدقة في ايراد أسماء الأفراد. لننظر الآن إلى الشعر القديم. ماذا نلاحظ ؟ نلاحظ أن الأسماء لا تدل على أفراد بقدر ما تدل على أنماط إنسانية. إن أسماء النساء في شعر النسيب اصطلاحية وتبعاً لذلك قليلة. يقول ابن رشيق: وللشعراء أسماء تخف على ألسنتهم وتحلو في أفواههم، فهم كثيراً ما يأتون بها زوراً نحو ليلى وهند وسلمى ودعد ولبنى وعفراء... وأشباههن.


إننا نجد هذه النزعة التي تضع المعنى في البدء عند الحريري. لقد رأينا أن شخصياته ذات التسمية العامة تمثل أنماطاً إنسانية. يجب الآن أن نضيف أن أبا زيد السروجي والحارث بن همام من هذا القبيل. فالحارث بن همام اسم لا نستطيع أن نتصور اسماً أعم منه. إنه مأخوذ من حديث نبوي معروف: كلكم حارث وكلكم همام. فهو اسم يمكن أن يطلق على أي إنسان. أما الاسم الآخر، فإنه يشتمل على زيد، ومن المعلوم أن زيداً وعمرا اسمان كثيراً ما نجدهما في كتب النحو والبلاغة إلى حد أنهما كالمرادفين لكلمة فلان أو العبارة إنسان كسائر الناس.


شخصيات الحريري موصوفة بسرعة في أغلب الأحيان. فبعض الإشارات تكفي لإبراز النمط. هذه الظاهرة مرتبطة بظاهرة أخرى وهي كثرة وأهمية النماذج البشرية في مقامات الحريري: عرقوب المتلمس، سطيح، إياس، سحبان حنين، باقل... فكل مفهوم (الجمال، الكذب الشجاعة، الحكمة) مرتبط بشخصية تاريخية أو أسطورية، أي باسم من الأسماء. الحكمة مثلا مرتبطة بلقمان. فعمل القارئ أو الشارح هو الانتقال من اسم إلى مفهوم، من دال (لقمان) إلى مدلول (الحكمة): خصائص الشخصيات صادرة عن الحقل الثقافي والوصف بمثابة تلميح أو استشهاد باسم.

* الوصف:

سنحاول البرهنة على هذه العموميات بتحليل قطعة من المقامة الثامنة عشرة تتضمن وصف جارية:

"كانت عندي جارية، لا يوجد لها في الجمال مجارية، إن سفرت خجل النيران، وصليت القلوب بالنيران، وان بسمت أزرت بالجمان وبيع المرجان بالمجان، وان رنت هيجت البلابل وحققت سحر بابل، وإن نطقت عقلت لب العاقل، واستنزلت العصم من المعاقل، وإن قرأت شفت المفؤود وأحيت الموؤود، وخلتها أوتيت من مزامير آل داود، وإن غنت ظل معبد لها عبداً وقيل سحقاً لإسحق وبعدا، وإن زمرت أضحى زنام عندها زنيما بعد أن كان لجيله زعيماً ... وإن رقصت أمالت العمائم عن الرؤوس، وأنستك رقص الحبب في الكؤوس".


العبارة الأولى في قطعة الحريري: كانت لي جارية، تشكل "إعلانا" إذ تحرك عدداً من الإمكانيات الوصفية والروائية: هذه الإمكانيات توجد عند الكاتب والقارئ اللذين يملكان نفس النسق الأدبي.

العبارة الثانية: لا تجاريها في الجمال مجارية ، تنهي السؤال المفتوح في الأولى ( كيف هي ؟...) وتشكل إعلاناً ثانياً : الجمال. هذا الإعلان يحرك بدوره إمكانيات وصفية تحقق البعض منها في القطعة وأعني وصف الوجه والابتسامة والنظر والحديث.
 هذه المعاني الجزئية لا تكفي لإعطاء صورة الجارية مثالية إذ أننا نجدها في وصف المرأة الحرة. وبما أن الجارية تزيد قيمتها إذا أضافت الى الجمال النبوغ في الفنون، فإننا لا نستغرب وجود الجزئيات التالية : القراءة والغناء والعزف والرقص. 

هذه المعاني الجزئية مرتبطة بالتقاليد الشعرية أو بالسنة الشعرية فالقطعة تزخر بالإشارات الثقافية التي كان من المفروض أن لا يجهلها الأديب. لذلك لم يكن من اللازم أن يطنب الحريري أو يفسر كلامه، فالإشارة أو التلميح بمثابة علامة مشاركة بين الحريري والقارئ الضمني.

* الترتيب السلّمي:

يبقى لنا أن نلاحظ في قطعة الحريري خاصية أخيرة وهي أن الوصف عبارة عن تشبيه أو مقارنة بين الجارية وكائنات أخرى. هذه المقارنة مرتبطة بصيغة التفضيل: الجارية تتفوق في جميع الميادين فجمالها يفوق جمال كل النساء وإشراقة وجهها تزيد على إشراقة الشمس والقمر، وصوتها أكثر اطرابا من صوت معبد واسحق ....

انطلاقاً من هذا الأسلوب في الوصف يمكن أن نقول إن العصر الكلاسيكي كان له نظام خاص في رسم الشخصيات، وهو نظام يختلف عن النظام الذي ألفناه في الكتابات الحديثة. حيث إنّ صورة الشخص تُبنى حسب محورين: محور الترتيب السلمي ومحور التمييز. المحور الأول يدل على المسافة القائمة بين السمو والضعة: هذا المحور يشير إلى كم الصفة التي للشخصية المقصودة. المحور الثاني يتعلق بخصائص الاتفاق والاختلاف، بالكيفية أو بالشكل الخاص الذي تتخذه الصفة المقصودة في الشخصية».

* الشخصية البراقشية:

من يقرأ الحريري يلاحظ أن جميع الأنواع الأدبية لها مكانها في مقاماته، وهذا ما يجعل أبا زيد يقدم صورا كثيرة لنفسه ويتقمص عدة شخصيات:

لبست لكل زمان لبوساً **** ولا بست صرفيه نعمى وبوسا
وعاشرت كل جليس بما **** يلائمه لأروق الجليسا
فعند الرواة أدير الكلام **** وبين السقاة أدير الكؤوسا
وطوراً بوعظي أسيل الدموع **** وطوراً بلهوي أسر النفوسا ...

أبو زيد يشبه طائراً كثير التلوّن تذكره المقامات وهو أبو براقش.
من الغرور في نظري أن نحاول معرفة هويته، أن نركب من صوره المتفرقة صورة واحدة. إنه ليس سوى ما تسمح له الأنواع الأدبية التي يستقر فيها أن يكون، فكيانه هو التغير. هذا التشتت يقابله في ترتيب المقامات. لقد ألّف الحريري خمسين مقامة وكل مقامة مستقلة بذاتها. فكما أن شخصية أبي زيد براقشية، أي لا يمكن تركيب أجزائها، فكذلك لا يمكن الربط بين المقامات.



* المقمقة:

إننا اليوم نركض وراء الجديد ونتطلع نحو المستقبل ( من هو الكاتب الذي يقبل أن يقال عنه إنه يقلد من سبقوه ؟)... في العصور القديمة كان مركز الثقل يكمن - مبدئيا - في الماضي، ويظهر هذا في التمثل المتواتر بأقوال السلف. لقد مدحت المقامات لأن صاحبها خطف أكثرها من مواضع يدل تهديه إليها على فضل بارع. إنّ الكاتب يعاتب - حسب عاداتنا الحديثة - إذا أكثر من الاستشهاد. أما في العصر الكلاسيكي فالكاتب ينبئ عن فضله بوفرة وتنوع استشهاداته ويعاتب إذا لم يتمثل بكلام غيره. ولقد اعتنى النقاد العرب بهذه المسألة وميّزوا أشكال الاستشهاد التالية: الاقتباس، وهو التمثل بنص قرآني أو بحديث نبوي، التضمين، وهو الاستشهاد ببيت أو بعدة أبيات من الشعر، الحل، وهو نثر بيت من الشعر العقد، وهو عكس الحل التلميح، ويعني إشارة إلى قصة مشهورة أو اسم معروف.



الأقوال المستشهد بها وحدات قائمة بذاتها ترحل من سياق إلى سياق. وحسب استشهاداته يشير الكاتب إلى نوعية انتمائه : التمثل بنصوص الأدب يعني الانتساب إلى الخاصة وفي الوقت نفسه الاحتماء بسلطة المتقدمين. من المعروف أن «الرأي» كان مرفوضاً من أغلبية المدارس الفقهية). وفوق ذلك فإن الاستشهاد يمنح النص قيمة تنميقية وجمالية"، ويرجع المجهول إلى المعروف. كل ما يحدث يمكن إرجاعه إلى نموذج ثقافي أي إلى الماضي، ولا يطلب من المتكلم إلا أن يزم شفتيه ويتحول إلى مقماق يتكلم من بطنه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

تجدون في هذه المدوّنة دروس مادة اللغة العربية، من منهجيات تحليل النصوص إلى طرق التعامل مع الامتحانات الجهوية والوطنية. كل ذلك في سبيل المساعدة وضمانا للنجاح.