جاري تحميل ... مول لعربية - Mol L3arbiya

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

أولى آداب وعلوم إنسانية

الزمخشري والأدب - تلخيص الدراسة الثالثة في القسم الثاني من مؤلف الأدب والغرابة







• الحُلم والكتابة:


    الكتاب عادة يولد بناء على طلب صریح تمليه ظروف خاصة مثلا المستظهري للغزالي، أو بناء على طلب ضمني توحي به بعض المشاكل المعلقة في الهواء (البخلاء للجاحظ). إذا أخذنا بعين الاعتبار النص، والنص يختلف عن الكتاب، فإننا نلاحظ أن القدماء كانوا يميزون بين النص الذي ينتج عن "الروية"، والنص الذي ينتج عن "البديهة والارتجال". وما دمنا نتحدث عن الولادة، فلنذكر بأن الشاعر الجاهلي كان يحمل في بطنه شیطانا مُوَسْوِساً یحب بين الفينة والفينة الخروج إلى الفضاء الواسع على شكل كلمات تتحول إلى أبيات. كان زهير يفاجئه المخاض كل سنة فيلد جنيا يربيه ويعتني به حولا كاملا.

مقامات الزمخشري وليد حلم. يقول المؤلف في خطبة الكتاب متحدثا عن نفسه بضمير الغائب: «والذي ندبه لإنشائها أنه أري في بعض إغفاءات الفجر كأنما صوت به من يقول له يا أبا القاسم أجل مكتوب وأمل مكذوب، فهب من اغفاءته تلك مشخوصا به مما هاله من ذلك وروّعه ونفر طائره وفزعه، وضم إلى هذه الكلمات ما ارتفعت به مقامة وآنسها بأخوات قلائل...».


    ليس المرض، بالنسبة للزمخشري، مجرد اختلال في البدن يرجى إصلاحه باللجوء إلى الطبيب وتناول الدواء الملائم. المرض تحذير وامتحان، أي أنه يحمل معنى على المريض أن يستشفه ويستخلص العبرة منه. المرض حالة بين حالتين، قدم في الحياة وقدم في الممات، وبهذا المدلول يمكن مقارنته بالشيب كما ورد وصفه عند الشعراء: كلاهما يحمل مذاق القبر.

لم يفت الزمخشري أن يستفيد من المرضة التي أنهكته والتي سماها (المنذرة) لأنها كانت سبب إنابته وفيئته. تعهد إن من الله عليه بالبرء أن يقلع عن حياته الماضية ويبدأ حياة جديدة: لن يتقرب إلى أصحاب النفوذ ولن يمدحهم ولن يسترزقهم، وعلاوة على ذلك لن يدرس من العلوم إلا القراءات والحديث وأبواب الشرع، ولن يغادر مسکنه إلا إذا دعاه «أمْرُ خير لا يجد الصالح بدّاً من توليه بخطوه»... التوبة انفصال عن عادات وممارسات مبنية على التشتت والتبدد خارج الذات، وإقبال على حياة تنتظم حول مرکز واحد يرمز إليه هنا بالمَسْكَن.


    ولما شُفِي الزمخشري انكب على إنشاء المقامات حتى تممها خمسين مقامة يَعِظُ فيها نفسه وينهاها أن تركن إلى دیدنها الأول. هذه المقامات لا تكاد تمت بصلة إلى ما نعرفه عند الهمذاني والحريري. خصائص النوع كما نجدها عند هذين المؤلفين يمكن تلخيصها في النقط التالية:

1. السند: ليس في المقامات متكلم واحد وإنما عدة متکلمین يصير القول إليهم بالتوالي.

2. السفر: المقامات جولة واسعة في مملكة الإسلام. 

3. نمطان إنسانيان متناقضان: الأديب والمُكْدي. كلاهما یری صورته في الآخر، ولكن ممسوخة. رغم اختلافهما فإن «اللغة» نفسها تجمع بينهما.

4. حكاية مبنية على ما يسميه أرسطوب "التعرف": فالمُكْدي يستتر وراء قناع ولا يكشف عن هويته إلا في نهاية المقامة. 

5. فن كتابي يشير إلى الأسلوب الرفيع:
أ. مزيج من الشعر والنثر. 
ب. مزيج من الأنواع الأدبية ومن الجد والهزل. 
ج. السجع والمحسنات.

    لن تجد في مقامات الزمخشري النقط الأربع الأولى، أما النقطة الخامسة فإنها لا ترد إلا جزئية: تجد السجع والمحسنات ولا تجد الشعر إلا لماماً. أما الأنواع فلن تجد منها إلا الوعظ، وهو النوع الذي يوافق الحياة الجديدة التي أقبل عليها صاحبنا. ومع ذلك فلقد احتفظ باسم المقامة إذ من المعروف أن كلمة مقامة كانت تدل، قبل أن ترتبط باسم الهمذاني، على الخطب الوعظية التي تُلقى في المساجد والمجاميع.


• الحديث رأسا لرأس:

مقامة التقوى:
«يا أبا القاسم العمر قصير، وإلى الله المصير، فما هذا التقصير. إن زبرج الدنيا قد أضلك، وشيطان الشهوة قد استزلك. لو كنت كما تدعي من أهل اللب والحجی، لأتيت بما هو أحرى بك وأحجى. ألا إن الأحجى بك أن تلوذ بالركن الأقوى، ولا ركن أقوى من ركن التقوى. الطرق شتی فاختر منها منهجا يهديك، ولا تخط قدماك في مضلة تُرديك. الجادة بينة، والمحجة نيرة، والحجة متّضحة، والشبهة مفتضحة، ووجوه الدلالة وضاء، والحنيفية نقية بيضاء. والحق قد رفعت سُتوره، وتبلج فسطع نوره. فلم تغالط نفسك، ولم تكابر حسك، ليت شعري ما هذا التواني، والمواعظ سير السواني» 


في كل مقامة يواجه صاحبنا نفسه: يتكلم ويصغي إلى كلامه، فهو في الوقت نفسه متكلم ومستمع؛ المتكلم يهدف إلى إقناع المستمع وإخضاعه لإرادته. توجيه الخطاب إلى "الآخر" يمر بالبنيات الإنشائية التالية: النداء، الأمر، النهي، الاستفهام، التحضيض. هذه البنيات تشير إلى علاقة القوة التي تجمع المتكلم ومخاطبه، وهي علاقة الأب مع ابنه يوبخه ويؤنبه ويفرك أذنيه. الابن يتلقى اللوم ویقی حاني الرأس لا يجيب ولكن الأب يكشف ما يدور في رأسه ويرد عليه «لو كنت كما تدعي من أهل اللب والحجى لأتيت بما هو أحرى بك وأحجی». السيطرة لا تتحقق تماما إلا عندما يفحم الابن ويعجز عن الجواب أو لا يجرؤ على الاعتراض. لهذا فإن الأسئلة التي يلقيها الأب علی ابنه «لم تغالط نفسك؟... ما هذا التواني؟» ليست أسئلة بالمعنى الدقيق لأن العلاقة بين الأب وابنه تُقصي الحوار والمناقشة. الأب يشدّ بخناق الابن المشاكس ويجبره على الطاعة والخضوع.


• عودة المكبوث:

    حبس الزمخشري نفسه في مسكنه وحبس کتابته في نوع واحد هو الوعظ. على الأقل أخذ على نفسه الوعد أن لا يتكلم إلا في الجد أي أن لا يسكن إلا في محل واحد يستقر فيه ولا ينتقل منه إلى محل آخر. هذا السكون الذي يسعى إليه يتعارض مع الحركة التي تميز الأدب. أغلبية الذين اشتغلوا بالأدب (ابن المقفع، الجاحظ، الهمذاني، ابن ناقيا، الحريري) أكدوا بصفة صريحة أو ضمنية على ضرورة الانتقال من الجد إلى الهزل. للأدب شجون ومنعطفات. الأديب يكره أن يمشي في طريق واحد فتراه يقفز من معنى إلى معنی ومن غرض إلى غرض ومن فن إلى فن. الأدب جولة تنقلك بلا سابق إنذار من منظر إلى منظر وتسمعك أصوات متعددة ومتناقضة أحيانا. لم يحتفظ الزمخشري من الأدب إلا بصوت واحد وأسكت سائر الأصوات الأخرى. جمعها في قبضته وتناول قذرة وغطاها به.


    لكنها تسللت من تحت القدر وتعلقت بصاحبنا وفرضت نفسها عليه فلم يجد بدا من منحها حيزا من كتابه. لا يكفي أن تدين الهزل لكي تمسكته (الهزل يعني عند الزمخشري كل الأنواع الأدبية التي ترتبط بالدنيا). توجد بين الجد والهزل علاقة متينة بحيث انك إذا تكلمت عن الجد فقد استدعيت الهزل للحضور. عندما يطرد الهزل من الباب فإنه يرجع خلسة من النافذة. مشروع الزمخشري متعذر التحقيق: كيف يمكنه أن يتكلم عن الجد دون أن يتعرض للهزل ؟ المعارضة عرض وتعرض. بمعارضته للهزل سقط صاحبنا في فخ الهزل. ومع ذلك لم يعترف صراحة بأن استدعاء نوع أدبي قد ألزمه باستدعاء سائر الأنواع الأخرى. كيف احتالت هذه الأنواع التفرض نفسها عليه ؟ بعبارة أخرى، كيف احتال صاحبنا لدمج الأصوات الممنوعة في إطار الوعظ ؟


الزمخشري يلعب على الحبلين. فمن جهة يحتقر البرنامج التقليدي للأدب، ومن جهة أخرى يحقق بكتابته هذا البرنامج. قد يعن له أحيانا أن يبدل مدلول الكلمات، أن يقترح مثلا تعريفة جديدة للأديب: «الأديب من أخذ نفسه بآداب الله فهذبها، ونقح أخلاقه من العقد الشائنة فشذبها». لكنه لا يصل إلى هذا التعريف إلا بعد أن يفصل القول في التعريف المتداول وبعد أن يستعرض المعارف التي لا بد أن يحيط بها الأديب: متن اللغة، القياس، الأبنية، النحو، علم المعاني، نقد الكلام، العروض، القافية، الشعر والنثر، الكتابة والخط. هذه المعارف جميعها واردة في المقامات. لنذكر على سبيل المثال عنوان بعض المقامات: مقامة النحو، مقامة العروض، مقامة القوافي، مقامة أيام العرب.



    يترتب على هذا أن الزمخشري يتناول الأدب من وجهة نظرغريبة، أي أنه يعرض أغراض الأدب وأدواته من خلال نظرة واعظ متزهد. وهكذا نقرأ في مقامة النحو: «يا أبا القاسم أعجزت أن تكون مثل همزة الاستفهام. إذ أخذت على ضعفها صدر الكلام. ليتك أشبهتها متقدمة في الخير مع المتقدمين. ولم تشبه في تأخرك حرف التأنيث والتنوين». ونقرأ في مقامة العروض: «لن تبلغ أسباب الهدی بمعرفة الأسباب والأوتاد... ما أحوج مثلك إلى الشغل بتعديل أفاعيله. عن تعديل وزن الشعر بتفاعيله». هذه الغرابة في تقديم الأدب لا نجدها في الشرح المطول الذي وضعه الزمخشري لمقاماته. لا نلمح في هذا الشرح أثرا للمشروع الذي أعلن عنه المؤلف في خطبة كتابه (ذلك أن الشرح نوع له قوانینه ومقوماته). الصورة التي يرسمها الشرح ليست صورة أب مسيطر يريد إيقاظ ابنه من الغفلة، وإنما صورة أستاذ كفء يأخذ بيد القارئ ويمهد له الطريق لفهم المقامات.

• أصل المكتوب:


    هذا لا يعني أن المقامات موجهة لأي قارئ وأن كل من يتقن القراءة سيتناول الكتاب مباشرة بالدرس. الكتاب موجه إلى شخص سيكون وسيطة بين المؤلف والقراء. هذا الوسيط يتمتع بخاصيات يصفها الزمخشري في افتتاحيته:
«تحققت أحسن الله توفيقك رغبتك في ازدياد العلم... لما أنت متسم به من حيازة منقبتين وهما إيثار الجد على الهزل والتهالك على الكلم الجزل فأسعفتك إلى طلبتك... وتوصيتك أن لا تمكن منها إلا من يوازيك في صفتك أو يدانيك من أولي الفضل والديانة ... ولقد رأينا من المشايخ من يحتاط في إكرام مصنفه حتى لا يرضى له إلا أن يكتب بخط رشيق وبقلم جليل وفي ورق جياد وأن يخط مضبوطة بالنقط والشكل... وأن تأمر من انتسخها بأن يُوَشِّح نسخته بإثبات اسم المنشئ وتفخيمه والدعاء له... وأن تنبه من تدره على مواقع النكت فيها واللطايف وما وعي في مناظمها من رابع الترتيب».
    
    يظهر من هذا النص أن الوسیط مدرس للأدب وأنه سيقوم بتبليغ المقامات، لمن ؟ فقط لأصحاب الفضل والديانة؛ أي أنه لن يمكن منها العامة وقليلي الدين. الكتاب لا يعرض للجميع وإنما لفئة محدودة: إذا تلقفته كل الأيدي فإنه سيتدنس لا محالة. الكتاب شيء نفيس: الورق جيد والخط أنيق رائع والمحسنات البديعية شرق كالشموس في سماء الصفحات. ماذا سيفعل به القارئ المحظوظ ؟ سینتسخه (القارئ نساخ وخطاط) وسيستمع إلى شروح الوسيط، وفوق ذلك لابد له من «إثبات اسم المنشئ». لماذا ؟


مؤلف الأدب والغرابة pdf:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

تجدون في هذه المدوّنة دروس مادة اللغة العربية، من منهجيات تحليل النصوص إلى طرق التعامل مع الامتحانات الجهوية والوطنية. كل ذلك في سبيل المساعدة وضمانا للنجاح.