الثانية آداب وعلوم إنسانية
منهجية تحليل القصة القصيرة : نموذج تطبيقي | نص مبارزة لمحمد إبراهيم بوعلو
◄ الأسئلة:
اُكتب موضوعا إنشائيا متكاملا تحلل فيه هذا النص، مستثمرا مختلف مكتسباتك المعرفية والمنهجية واللغوية، مع الاسترشاد بالمطالب التالية :
- تأطير النص ضمن تطور الأشكال النظرية الحديثة، مع وضع فرضية لقراءته.
- تحديد المتن الحكائي للقصة.
- دراسة مختلف الخصائص الفنية للقصّة، وبيان وظائفها.
- ترکیب نتائج التحليل، وإبراز مدى تمثيل النص للجنس الأدبي الذي ينتمي إليه.
◄ مقدمة:
تميز النثر العربي، قبل عصر النهضة، بالانحطاط في مستواه الفني نتيجة الاهتمام بالشكل أكثر من المضمون، إلى درجة أصبح معها النص مجرد معرض للزخارف اللفظية والمحسنات البديعية الفارغة، أما في العصر الحديث فقد تطور هذا الفن، وظهرت فيه أجناس أدبية جديدة كالمقالة والمسرحية والقصة القصيرة. ويعتبر الفن القصصي من أبرز الملامح الفنية التي ميزت المشهد الثقافي لهذا العصر، وذلك نتيجة لمجموعة من التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية، أبرزها إحياء التراث العربي، والانفتاح على الثقافة الغربية، والاستجابة للتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة، بالإضافة إلى الدور البارز للصحافة التي ساعدت على الانتشار الواسع لهذا الفن عبر صفحات الجرائد والمجلات، وقد مثل الفن القصصي في العالم العربي مجموعة من الأصوات الإبداعية نذكر منها : محمود تيمور، ويجی حفي، ويوسف إدريس، وزكريا تامر، وعبد المجيد بن جلون، ومحمد زفزاف، وأحمد بوزفر، ومحمد إبراهيم بوعلو... ويعتبر هذا الأخير من رواد القصة القصيرة في المغرب، ويبدو ذلك من خلال إصداره للعديد من الأعمال في هذا المجال، منها مجموعته القصصية "الفارس والحصان" التي اقتطف منها هذا النص الذي يحمل عنوان "مبارزة". إنه بمجرد ملاحظتنا لشكل النص وحجمه، وقراءتنا لعنوانه والفقرة الأولى منه، نكتشف أنه نص نثري قصير، وأنه يتناول شخصية، ويصف حالتها (محرج - مهان)، ويتحدث عن تأهبها لإنجاز حدث (مبارزة). فهذه المؤشرات تدعونا منذ البداية أن نفترض بأننا بصدد نص قصصي.
فما هو المتن الحكائي الذي تدور حوله هذه القصة ؟ وماهي خصائصها الفنية ؟ وإلى أي حد استطاع الكاتب من خلالها أن يتمثل مميزات الفن القصصي ؟
◄ عرض:
تدور أحداث القصة حول شخص وجد نفسه - فجأة - أمام خصم عنيد يريد أن يبارزه، وزاد من صعوبة الموقف أن شرفه سیهان إذا هو لم يقبل هذه المبارزة. وقد حاول البطل أن يتجنب هذا الموقف باختلاق مجموعة من المبررات، إلا أن هذه المبررات كانت كلها واهية، بحيث لا تعبر عن سبب معقول من شأنه أن يلغي هذه المواجهة وبذلك تضافرت مجموعة من العوامل، منها استفزاز الخصم وسخريته وإهانة الأصدقاء وتهديدهم وحب الخطيبة والغيرة عليها، في الاتجاه إلى قبول هذه المبارزة، بل وإنجازها بفعل بطولي. إلا أنه يتبين، في النهاية، أن وقائع هذه المبارزة لم تكن سوى أحلام تراءت للبطل في نومه نتيجة تأثره بأحداث رواية "الدون كيشوت" في محاربته للطواحين الهوائية.
وإذا تأملنا وقائع هذه القصة، من بداية النص إلى نهايته، نجد أنها تنتظم وفق خطاطة سردية تقوم على تعاقب سلسلة من الحالات والتحولات، فالحالات هي مجموعة الأفعال والسلوكات التي تقرب الذات من إدراك الموضوع (الخروج من الموقف المحرج)، أما التحولات فهي مجموع الأفعال التي تنجزها الذات للانتقال من حالة إلى أخرى (اختلاق مبررات لتفادي المعركة – التفكير في الانسحاب أو الفرار)، وقد انتهت القصة باتصال الذات بالموضوع المرغوب عنه (إجراء المبارزة)، وانفصالها عن الموضوع المرغوب فيه (الانسحاب أو الفرار). ولا شك أن امتلاك الذات للموضوع قد مر بمجموعة من اللحظات السردية المتفاعلة ضمن برنامج سردي، بحيث تم الانطلاق من لحظة التحريك أو التحفيز (شعور البطل بالإهانة)، ثم الانتقال إلى لحظة القدرة أو الأهلية (لجوء البطل إلى حمل السيف وإبداؤه الاستعداد لخوض المعركة)، ثم التحول إلى لحظة الإنجاز (الانخراط الفعلي في المعركة)، وأخيرا الوصول إلى لحظة الجزاء (تقدير الحبيبة واعتراف الأصدقاء).
إنّ تطور الأحداث، من البداية إلى النهاية، قد ساهمت فيه مجموعة من القوى الفاعلة، ويمكن تشخیص هذه القوي الفاعلة، وتحديد أدوراها، وتوضيح مختلف العلاقات القائمة بينها في النموذج العاملي الآتي:
ومن منطلق أنّ الوقائع والأحداث لا يمكن إنجازها بمعزل عن الشخصيات والمكان والزمان، فإنّ الكاتب قد اختار لهذه القصة شخصية رئيسية وهي البطل الذي كان مطلوبا للمبارزة وهو يتميز بعدد من الصفات يمكن إجمالها كما يلي:
* الصفات النفسية: فهو ذو شخصية قلقة مضطربة تتجاذبها عدد من العوامل النفسية المتناقضة كالخوف والحب والشجاعة والجبن.
* الصفات الاجتماعية: له خطيبة فاتنة وأخت وأصدقاء.
* الصفات الفيزيولوجية: ذو بنية جسمانية ضعيفة أو عادية ( كان يعتبر نفسه غير مؤهل لهذه المبارزة).
بالإضافة إلى شخصية البطل هناك شخصيات أخرى تمثلت أساسا في الخصم الذي دعاه للمبارزة، وكذلك الأخت التي كان يبارزها كل مساء، هذا فضلا عن الأصدقاء.
وكل هذا جعل المكان يتناسب مع الحدث الرئيسي (المبارزة)، ويتجلى في "الغابة البعيدة عن المدينة" باعتبارها مكانا مفتوحا وخاليا، والتي قصدها دون أن يعرف السبب فاعترض الخصم سبيله. ولا شك أن هذه الخصوصية المكانية تجعلنا نتخيل المبارزة أكثر حركية وضراوة وعنفا.
أما الزمان فيحظى بحضور محدود في النص، ويتمثل في مظهرين بارزين هما : الزمن النحوي الذي يتميز بهيمنة الفعل الماضي (وجد نفسه في موقف حرج - واقترب منه خصمه - ونظر إلى رفيقه...)، ثم الزمن النفسي الذي يقاس بلحظات الخوف والحرب التي كانت تعيشها الشخصية قبل الإقدام على المبارزة.
وبخصوص النسق الزمني، فإنه يتميز غالبا بهيمنة الزمن التعاقبي، وذلك من خلال تسلسل الأحداث في النص كما يفترض أن يكون ذلك في الواقع، وإذا كان هذا النسق هو الغالب، فإننا نستثني من ذلك حالة واحدة لجأ فيها السارد إلى الاسترجاع والاستذکار، حيث يقول على لسان البطل : «إني تعلمت من قبل المبارزة، لقد كنت أتسلى مع أختي كل مساء، وكنت دائما أنتصر عليها»، وحالة واحدة أيضا لجأ فيها إلى الاستشراف والتوقع، ومثال ذلك ما قاله على لسان البطل كذلك : «إني عما قريب سأموت، وسيعلنون على مسامعك ذلك».
وبِحُكم أنّ القصة عمل سردي، فلا بد لهذا العمل من سارد يقدمه إلى القارئ، ويتميز السارد في هذا النص بكونه ساردا غائبا ومحايدا، لكنه شاهد على ما يحدث، وذلك وفق رؤية سردية هيمن عليها "الرؤية من الخلف"، أي أن السارد يبدو أكثر علما بما يقع في النص من الشخصية، بحيث يستطيع أن يتغلغل في داخلها، فيكشف لنا أحاسيسها ومشاعرها ونواياها وأفكارها، كما أنه يسمح لنفسه بالتعليق على الأحداث وعلى الشخصيات، ومن أمثلة ذلك قوله: "إنا لا نستطيع أن نصف بالضبط ما كان يجول في دماغه وهو في موقفه المحرج هذا، غير أننا نستطيع أن نتكهن مع شيء من التحفظ أنه كان يعتبر نفسه غير مؤهل لهذه المبارزة، وأن الأولى بأحد أصدقائه الملتفين حوله أن يدفعوا عنه هذا الضيم، ولكن فيما يظهر أنه لا مفر له من حمل السيف وأن يتقدم نحو خصمه..."
وبالإضافة إلى السرد، يلعب الوصف دورا أساسيا في بناء النص القصصي، ويتم ذلك انطلاقا من مجموعة من الوظائف المختلفة أهمها التعريف بالشخصيات والأمكنة والأشياء؛ فمثال التعريف بالشخصيات ما قيل عن الصفات الخارجية والنفسية للخصم؛ فهو شخص عنيد، وخصم جبار، ورجل أحمق، ووحش ضار، وذو نسمات قاسية ونظرة صارمة.... وكذلك ما قيل عن الخطيبة بأنها فاتنة وتشبه الحمامة. ومثال التعريف بالأمكنة ما قيل عن مكان المبارزة بأنه مكان موحش وغابة بعيدة، ومثال التعريف بالأشياء ما قيل عن السيف بأنه سيف حقيقي وسيف حاد على نصله يلمع الموت. وفضلا عن الوظيفة السابقة هناك وظيفة أخرى للوصف تتمثل في إثارة الأحداث والمساهمة في خلق التشويق والترقب، كقول السارد: «فارتاع وارتجف، وابتلع ريقه في شيء من الإشمئزاز». ولا يمكن أن نغفل كذلك وظيفة ثالثة هي الوظيفة الجمالية التي يؤديها الوصف باعتباره وسيلة أساسية لتكسير رتابة السرد، ومنح القارئ فرصة ليستريح من تدفقاته المتلاحقة.
ولخلق تفاعل بين الشخصيات أو التعبير عن عالمها الداخلي يلجأ الكاتب إلى تقنية الحوار، والحوار في النص نوعان: داخلي تجريه الشخصية مع نفسها، فيساعد ذلك على كشف ما بداخلها من أفكار ومشاعر ومواقف ...)، ومثال ذلك ما حدّث به البطل نفسه بقوله: «كيف أسمح له بها... إنني خطيبها الشرعي، وإنني أمام العالم أجمع أحق بها من غيري، وهذا الذي ينازعني بالمبارزة إنما هو رجل أحمق ... نعم رجل لا يحترم القوانين». ثم هناك أيضا الحوار الخارجي، ويتم تارة بين البطل وخصمه "ماذا تنتظر ؟ .. لا شيء يا أخي" وتارة بين البطل وأصدقائه "عندها سنقتلك نحن - إنكم جميعا أوغاد".
وبانتقالنا إلى الدراسة الأسلوبية للنص، نجد أن اللغة المستعملة يهيمن عليها المعجم النفسي الذي يساعد على التغلغل في الشخصيات وکشف بواطنها الداخلية، كما أنّ الكاتب يزاوج فيها بين الجمل الخبرية والأساليب الإنشائية فالجملة الخبرية تساعد على تقديم الأحداث والتعريف بالشخصيات والأمكنة والأشياء، أما الجملة الإنشائية فتساعد على تحقيق التواصل والتجارب بين الأطراف المتفاعلة في القصة، وبالإضافة إلى ذلك لا يمكن إغفال أهم ميزة تميز لغة النص وهي الوظيفة الشعرية التي تحققها انطلاقا من طابعها الإيحائي الذي ينزاح عن اللغة العادية، فينتج عن ذلك تعابير جميلة تمارس تأثيرا وجاذبية على المتلقي، ومثال ذلك: (لكن عينيه اشتبكت بعيني رفيقه - إنه سيبعد عنهم شبح الهزيمة - غزت قلبه وساوس وظنون...).
إنّ غاية الكاتب من هذه القصة هو استبطان الشخصية الإنسانية وكشف مراحلها وإبراز متناقضاتها، وهذا ما ينطبق على الشخصية المحورية، بحيث تبدو شخصية مركبة ومتداخلة، تتجاذبها مجموعة من المتناقضات، فهي تتأرجح بين الضعف والقوة، والتردد والحماس، والذل والكرامة، واليقظة والحلم، والواقع والوهم.
◄ خاتمة:
استنادا إلى ما سبق، يتبين أن النص يمثّل إلى حد كبير مقومات القصة القصيرة الحديثة، فهو من جهة ينتمي إلى "تيار الوعي" الذي ظهر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكان يهدف إلى استيطان الشخصية الإنسانية وكشف دواخلها وإبراز متناقضاتها... وهذا ينطبق على شخصية البطل الذي يسمح لنا النص بالغوص في عالمها النفسي الداخلي وتبين أفكارها ورغباتها ومشاعرها المختلفة، وهو من جهة ثانية يمثل هذا الفن من خلال قيامه على وحدة الحدث (المبارزة، وقلة الشخصيات البطل، وغريمه، وخطيبته، وأصدقاؤه)، والمحدودية في الزمان والمكان (لحظة المبارزة في الغابة)، بالإضافة إلى سمات فنية أخرى كالسرد الذي تهيمن عليه الرؤية من الخلف، والوصف الذي تتوزع وظائفه بين التعريف بالشخصيات والأمكنة والأشياء، وإنارة الأحداث، وتكسير رتابة السرد، ثم الحوار بنوعيه الخارجي والداخلي الذي يتيح التواصل بين الشخصيات والتغلغل في أعماقها، هذا فضلا عن التنويع في استعمال الأساليب بين الخبر والإنشاء، وأخيرا توظيف بعض الصور البلاغية التي منحت النص طابعا شعريا إيحائيا.
وقد ساهمت كلّ هذه المقومات الفنية في بناء نص قصصي يتميز بالتشويق والإثارة التي تدفع المتلقي إلى الإنجذاب والترقب والتفاعل مع الأحداث والشخصيات، الشيء الذي طبع النص بسمة خاصة، تجعل منه تجربة متميزة، كما تجعل من صاحبه دعامة أساسية للفن القصصي بالمغرب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق