الثانية آداب وعلوم إنسانية
هبوط أورفيوس إلى العالم السفلي : تحليل قصيدة تجديد الرؤيا | الدرس 8
◄ تمهيد:
لم تقم الحركة الشعرية الحداثية على مفهوم تكسير البنية فحسب، ولكنها تأسست على شق ثانٍ أهمّ وهو ما يعرف بتجديد الرؤيا، فالشاعر يجب أن يمتلك رؤيا خاصة للقضايا المحيطة به وبمجتمعه، والشاعر عبد الوهاب البياتي من الشعراء الذين اكتسبوا هذه الرؤيا وعبروا عنها في أشعارهم وخاصة في مسألة الموت والبعث التي انطلق منها كفكرة ليصل إلى حلم الانبعاث من قوقعة التخلف والهزائم التي فرضت على الواقع العربي.
І- ملاحظة النصّ:
1) صاحب النص:
ولد الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي عام م 1926، درس ببغداد لمتابعة تعليمه الثانوي، ثم التحق بدار المعلمين العليا، اشتغل بالتعليم والصحافة، كما تقلد بعض المناصب الدبلوماسية، ونظرا لعمله السياسي فقد تعرض لبعض المضايقات مما جعله يتنقل بين عدد من العواصم العالمية، توفي سنة 1999م. من مؤلفاته نذكر الدواوين التالية: ”أباريق مهشمة” ”المجد للأطفال والزيتون” ”أشعار في المنفى” ”الذي يأتي ولا يأتي”.
2) نوعية النص ومصدره:
قصيدة شعرية بنظام السطر الشعري يعبر فيها الشاعر عن رؤيته الشعرية تجاه الإنسان وقضاياه الوجودية والحضارية وهي مأخوذة عن ديوان عبد الوهاب البياتي، ج 2 (الكتابة على الطين) دار العودة – بيروت /1972، ص: 428 - 431.
3) ملاحظة العنوان ووضع الفرضية:
يحيل العنوان على الشاعر الأسطوري أورفيوس الذي استطاع بفنه وغنائه أن يحصل على إذن من كبير الآلهة “زيوس” لإنقاذ زوجته من العالم السفلي بشرط أن يمشي أولا و تسير وراءه دون أن يكون له الحق في النظر خلفه، غير أن أورفيوس خالف هذا الشرط عندما التفت وراءه ليتأكد من وجود زوجته فاختفت على الفور، ونحن نفترض أن توظيف الشاعر لهذا العنوان وبهذه الصيغة يحيل على ما يؤرق الإنسان في هذه الحياة، وهو طبيعة وجوده وكيفية التخلص من الموت.
ІІ- فهم النّص:
أ) المضمون العام:
تعبير الشاعر عن رؤيته الشعرية تجاه الإنسان وقضاياه الوجودية والحضارية.
ب) الوحدات الدلالية:
- الوحدة الأولى:
* رسم الشاعر صورة عن الظروف المحيطة بمدينة آشور (وفاة الفارس دون حرب، طيران الثور الخرافي الذي نطح الشمس).
- الوحدة الثانية:
* نقل الشاعر الحوار الذي دار بين أورفيوس وعشتار حول الحلم بحياة جديدة ودائمة.
- الوحدة الثالثة:
* تأكد الشاعر من فكرة عبثية هذه الحياة وما يليها من موت.
ІІІ- تحليل النص:
1- المعجم:
وظف الشاعر لغة سهلة متداولة، ركز فيها على الحقل الدلالي الخاص بالطبيعة والحقل الدال على الزمان:
* حقل الطبيعة ( الريح ، الثور ، أسحار ، الشمس ، القش ، الشوك ، السدود )
* حقل الزمان ( الليل ، فجر ، عصر ، الليالي ، الخريف ، العصور ، ساعاته )
* حقل الطبيعة ( الريح ، الثور ، أسحار ، الشمس ، القش ، الشوك ، السدود )
* حقل الزمان ( الليل ، فجر ، عصر ، الليالي ، الخريف ، العصور ، ساعاته )
والعلاقة بين هذين الحقلين علاقة ترابط وتكامل؛ نظرا لتضافر الطبيعة مع الزمان للتحكم في مصير الإنسان.
2- الصورة الشعرية:
اعتمد الشاعر في هذا النص مجموعة من الوسائل المستحدثة لبناء الصورة الشعرية، كان الغرض منها هو التعبير عن رؤيا شخصية وتجربة خاصة. وقد اتخذ أسطورة أورفيوس قناعا ومرتكزا لهذه الرؤيا، كما أضاف إليها عددا من الرموز مثل: عشتار، الثور الخرافي، الريح، الشمس.
وكل هذه الوسائل ساعدت على إغناء النص وجعل مضامينه قابلة للتوسع بفضل التأويل.
وقد اعتمد الشاعر أيضا الانزياح كوسيلة من وسائل الصورة الشعرية كما في قوله (صلوات الريح في آشور)، وكذلك (حاملا خصلة شعر الشمس تبكيها)...
وهذه الأساليب تسمح أيضا بالتأويل وإثراء معاني النص.
غير أن توظيف الشاعر لهذه الوسائل المستحدثة لم يمنع من اعتماد الوسائل التقليدية كـالتشبيه (كالعصافيرعلى حائط نور...) والاستعارة ( وبشطآن عصور)...
3- الإيقاع الخارجي:
اعتمد الشاعر نظام الأسطر الشعرية المختلفة من حيث الطول والقِصر باختلاف حالات الدفقة الشعورية للشاعر، وقد استخدم الوحدة الإيقاعية لبحر الرمل (فاعلاتن)، كما نوّع في استعمال القوافي (/00) (/0/) وأحرف الروي (الدال – الراء – اللام).
4- الإيقاع الداخلي:
قام من خلاله الشاعر بتكرار بعض الكلمات (الشمس، النور) والجمل (عبثا تصرخ، في كل العصور) والأصوات (س، ن، د)، وتكرار بعض المدود الصوتية.
5- الأسلوب:
ركّز الشاعر على الجمل الخبرية التقريرية التي توافقت وطبيعة الحكي الموجودة في النص، ولكن ذلك لم يمنعه من اعتماد عدد من الأساليب الإنشائية كأسلوب الاستفهام (فلماذا أنت في الكهف وحيد ؟) والتعجب (ما أوحش ليلاتي !) والنداء (أيها الثور الخرافي).
وكلّ هذه الجمل والأساليب تحدد الطبيعة الانفعالية للشاعر.
كما أنه زاوج كذلك بين الجمل الاسمية التي استخدمها في عمليات الوصف، والفعلية التي تدل على الحركة والفعل والحدث.ІІІІ- تركيب وتقويم:
لقد تميّز هذا النصّ بمجموعة من مظاهر تكسير البنية من حيث اللغة والصورة الشعرية والبنية الإيقاعية، غير أنّ الأهم من ذلك هو تعبيره عن رؤيا شعرية استخدم فيها الشاعر مجموعة من الوسائل كالرموز والأساطير، وهي رؤيا عبر فيها الشاعر عن نظرته للإنسان من حيث كينونته الوجودية والحضارية التي قد تصل به أحيانا إلى التفكير في عبثية هذا الوجود الذي تبدو نهايته حتمية. وإذا نقلنا هذه النظرة إلى الواقع العربي الذي يعيشه الشاعر نستطيع أن نقول بأن الضعف العربي المتواصل يجعل الشاعر يقف عند السؤال الصعب: هل يمكن الحديث عن انبعاث جديد ؟ أ نستطيع أن نحترم كل شروط هذه العودة إلى الحياة أم أننا سنخفق كما أخفق أورفيوس في العودة بزوجته أوريديس إلى الحياة فقط لأنه أراد أن يتأكد من أنها ما تزال تتبعه إلى العالم العلوي ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق