أولى آداب وعلوم إنسانية
بين أرسطو والجرجاني (الغرابة والألفة) - تلخيص الدراسة الأولى في القسم الثاني من مؤلف الأدب والغرابة
- المقارنة:
يقارن الناقد عبد الفتاح كيليطو في هذه الدراسة، بين البلاغتين العربية واليونانية؛ البلاغة العربية من خلال نموذج الجرجاني، والبلاغة اليونانية أرسطو أنموذجا.
فإذا كانت البلاغة عند العرب من أجل الإمتاع، فإن البلاغة اليونانية (الريطوريقا) أقرب من الخطابة وهي من أجل الإقناع.
ويشير الناقد إلى أنّ هناك بلاغة أخرى تمّ إهمالها رغم تشابهها مع البلاغة العربية وهي البلاغة الهندية.
- البلاغة بين الأمس واليوم:
يشير الناقد إلى أنّ البلاغة كانت في ما مضى علما نابضا بالحياة، ولكنها اليوم لا تكاد تحرّك أيّ فضول مقارنة مع علم التنجيم وعلم الكيمياء القديمة؛ حيث تطور علم التنجيم إلى علم الفلك، والكيمياء القديمة إلى الحديثة، أما البلاغة فقد بقيت على حالها منذ التقسيم الذي وضعه السكاكي.
- الاستغراب:
يتحدث الناقد عبد الفتاح كيليطو في هذا الجزء من الدراسة الأولى ضمن دراسات القسم الثاني، عن ثنائية الألفة والغرابة؛ حيث يشير إلى أن هاته الثنائية تحضر في كل شيء، ففي الحياة اليومية مثلا هناك أناس مألوفون وأناس غرباء، وفي النصوص الشعرية أيضا نجد تعابير مألوفة وأخرى غريبة، خصوصا تلك التعابير المجازية.
- ما معنى المجاز ؟
• المجاز لغة: يعني انتقال الشيء من مكان أصلي إلى مكان آخر.
• اصطلاحا: أسلوب بلاغي من أساليب علم البيان، وهو استعمال اللفظ في غير معناه الذي وضع له في أصل اللغة، لوجود علاقة المشابهة القائمة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي كما في الاستعارة، أو علاقة السّببيّة / المسبّبيّة / الجزئيّة / الكلّيّة / اعتبار ما كان / اعتبار ما سيكون / المحلية / الحالية كما هو الشأن في المجاز المرسل.
- مجاز الشمس:
يشير الناقد عبد الفتاح كيليطو إلى أن متأمل الأمثلة التي يوردها الجرجاني في كتاب أسرار البلاغة يجدها دائما حاضرة مع الشمس، حيث إن هذه الأخيرة هي مصدر النور والدفء والطاقة، وعندما تغيب ويحل الظلام فإن القمر يستعير نوره من الشمس. وهنا يظهر الدور الأساسي الذي تلعبه الشمس في حياتنا اليومية، هذا ما جعل الجرجاني يذكرها في جل الأمثلة التي يقدمها في كتابه.
ويقول الناقد في هذا الصدد: "للاقتناع بهذه الفكرة، يكفي الرجوع إلى أسرار البلاغة حيث نجد في كل لحظة إحالة على الشمس. جل الأبيات التي يوردها الجرجاني تتضمن الكلام عن الشمس، وعن الظلمة طبعاً، عن ظلمة تزول بفضل الشمس، أو القمر الذي يستعير نوره من الشمس. جل أمثلة الجرجاني لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالعين المبصرة وبالشمس وبالمجاز (من جاز المكان...) هناك مجاز الدواب، ومجاز الركب السائرين في طريق واضحة أو ملتوية، ومجاز الشمس. الكلام عن الاستعارة هو في الوقت نفسه كلام عن الشمس".
- ما هي مميزات الشمس والاستعارة ؟
1) تمتاز الشمس بالنور الذي تضفيه على الوجود فتظهر الأشياء والأجسام وتُجلي ما هو خفي. كذلك حكم الاستعارة فإنهـا نيـرة متلألئة «إن شئت أرتك المعاني اللطيفة التي هي من خبايا العقل كأنها قد جسمت حتى رأتها العيون».
يقارن الناقد عبد الفتاح كيليطو في هذا المحور من القسم الثاني بين الشمس والاستعارة، ويؤكد أن كلاهما يتصفان بالنور والإشراق؛ فالشمس تضفي نورها على الوجود، فتظهر الأشياء والأجسام وتكشف ما هو خفي. كذلك الاستعارة، فهي تكشف عن المعاني الخفية في النص الأدبي، وتجعلها أكثر وضوحاً وتأثيراً.
فمثلما تبدو النجوم في السماء واضحة وساطعة، كذلك تبدو المعاني الخفية في النص الأدبي واضحة وساطعة إذا استعيرت لها استعارة مناسبة.
2) تمتاز الشمس أيضا بعلوها وشموخها وارتفاعها فوق الكائنات، فلا أحد يجهل مكانها ومكانتها في الوجود. «ومن هذا الأصل استعارة الشمس للرجل تصفه بالنباهة والرفعة والشرف والشهرة». هذه الأوصاف تنطبق على الاستعارة إذ «من الفضيلة الجامعة فيها: انها تبرز هذا البيان أبداً في صورة مستجدة تزيد قدره نبلاً، وتوجب له بعد الفضل فضلاً».
3) ثم أليست هذه «الصورة المستجدة» من أوصاف الشمس التي لا تبقى على حال بل تتجدد وتطلع كل صباح في حلة قشيبة تهش لها النفوس ؟ فمن حسن الحظ أن الشمس ليست مستقرة في نقطة من السماء لا تزايلها. لولا انتقالها في السماء لكانت ضارة ومكروهة.
لنقرأ مثلا هذا البيت:
وهبك كالشمس في حسن ألم ترَنا *** نفرُّ منها إذا مالت إلى الضرر
إننا نحب الشمس لأنها حاضرة غائبة، مقيمة راحلة مشرقة غاربة، أليفة غريبة. طول المكوث في مكان معلوم يخلق الألفة ولكنه يورث الملل. فلهذا يبلى الشيء إذا طال وقوع البصر عليه وتمجه النفوس ولا يصبو إليه أحد.
وطول مقام المرء في الحي مخلق لديباجتيه فاغترب تتجدد. فاني رأيت الشمس زيدت محبة إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد.
إذا أراد المرء أن يتجدد فما عليه إلا أن يغترب، أن يبدل مقامه، أن يغرب، كما تفعل الشمس. على أن غروب الشمس ليس ضياعها وانعدامها: إنها تشرق على قوم آخرين يسرون بمقدمها عليهم، ثم تعود من جديد إلى القوم الذين غربت عنهم.
المرء المغترب يتجدد بانتقاله إلى مكان غير مألوف لأنه في هذه الحالة يستعير ثوباً جديداً يجعله يبدو في منظر غير معهود. فالثوب يبلى مع كثرة لبوسه وما على المرء إلا أن يبادر إلى تبديله بثوب آخر. إذ ذاك سترقبه العيون لأنه سيمر من هيئة مألوفة إلى هيئة غريبة. فليس الثوب وحده الذي يتجدد بل كذلك من يرتديه.
ويخلص الناقد عبد الفتاح كيليطو في نهاية هذا المحور إلى أنّ الاستعارة هي نوع من البلاغة ينقل فيه معنى كلمة أو عبارة إلى معنى آخر غير معناها الأصلي. ويوضح الكاتب أن الاستعارة فعالة لأنها تخلق صورة جديدة في ذهن القارئ. كما يوضح أن الاستعارة تعتمد على الغرابة والألفة. الغرابة هي أن الشيء يظهر في مكان غير مألوف له، والألفة هي أن الشيء يشبه شيئًا آخر معروفًا.
- لغة الشمس:
رب قائل يقول: ما أكثر النصوص المجازية التي لا تتضمن احالة على الشمس. هذا الاعتراض يمر بجانب المسألة: عندما تختفي الشمس وراء السحب فإنها تستتر ولكنها لا تفنى وتفقد مكانها في السماء. خذ مثلا هذا البيت:
نَقّلْ فؤادَك حيث شِئْتَ من الهوى *** ما الحب إلا للحبيب الأول
أين هي الشمس ؟ لا نلمح ضوءها ولكن حركتها واضحة في البيت (فؤاد ينتقل في سماء الهوى ثم يعود كالشمس إلى نقطة انطلاقه). قلت: لا نلمح وحركة واضحة. في كلامي إحالة إلى الشمس ولست أدري كيف يمكن أن أحور الجملة حتى أحذف التلميح الى الكوكب المنير. نحن مدينون للشمس بالكثير. كيف يمكن أن نستغني عن استعمالات من نوع: عبارة واضحة أو مشرقة ؟
- الاحتضار:
يخلص الناقد عبد الفتاح كيليطو في نهاية الدراسة الأولى من القسم الثاني بعنوان "بين أرسطو والجرجاني (الغرابة والألفة)" إلى أنّ إلى أن البلاغة العربية في عصر الانحطاط كانت تعاني من حالة من الغرابة والألفة، حيث كانت مرتبطة بماضيها المجيد ولكنها لم تكن قادرة على الاستمرار في ذلك المجد.
حيث يقول: موضوع الغرابة والألفة لا يخص فقط البلاغة والخطاب الشعري بل يمكن رصده في ميادين مختلفة من الثقافة العربية. في نهاية المطاف لا بد أن نتساءل، مرة أخرى، عن التلقي المخصص اليوم للبلاغة، وبالأخص للبلاغة التي صُنّفت بعد الجرجاني. من سوء حظ هذه البلاغة أنها مرتبطة بما يسمى عصر الانحطاط. لكن ما معنى الانحطاط ؟ الانحطاط يقتضي شيئاً كان في وقت ما مرتفعاً وشامخاً، ثم أخذ ينزل تدريجياً إلى السفح المقابل، حيث صار تدريجياً يضمحل ويذوب وينطفئ.
ويُضيف: تاريخ البلاغة العربية، كما يكتب اليوم، هو تتبع لدورة الشمس في طلوعها وازدهارها والكلال الذي يصيبها إلى أن لا يبقى منها شيء ويعم الظلام. كلامنا عن البلاغة بعد الجرجاني كلام عن شمس مريضة لم تعد قادرة على النهوض من مرقدها. والملاحظ أن ما يسمى بالنهضة (والنهضة تعني يقظة، أو مجازاً من ظلمة النوم إلى إشراقة الصباح) لم يمس البلاغة. فعلى المؤرخ المنجم أن يتساءل، ويسأل الكواكب، عن سر هذا السبات العميق الذي أصاب الدراسات البلاغية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق