نحن والسندباد - تلخيص الدراسة الأخيرة في القسم الثاني من مؤلف الأدب والغرابة
نحن والسندباد : تلخيص شامل
«بلغني أنه كان في زمن الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد بمدينة بغداد، رجل يقال له السندباد الحمال، وكان رجلاً فقير الحال، يحمل بأجرته على رأسه، فاتفق له أنه حمل في يوم من الأيام حملة ثقيلة، وكان ذلك اليوم شديد الحر فتعب من تلك الحملة وعرق واشتد عليه الحر فمر على باب رجل تاجر قدامه كنس ورش وهناك هواء معتدل وكان بجانب الباب مصطبة عريضة، فحط الحمال حملته على تلك المصطبة ليستريح ويشم الهواء».
فهرس المحتويات:
-
البر والبحر:
تتكون حكاية السندباد من سبع حكايات يرويها السندباد البحري بنفسه ويصف فيها ما جرى له في أسفاره السبعة، وبالإضافة إلى ذلك هناك حكاية أخرى لها وضعية خاصة لأنها تؤطر الحكايات السبع، وتقوم شهرزاد بروايتها لشهريار: حكاية لقاء السندباد البري بالسندباد البحري، التي تبدأ هكذا:
«بلغني أنه كان في زمن الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد بمدينة
بغداد، رجل يقال له السندباد الحمال، وكان رجلاً فقير الحال، يحمل بأجرته على
رأسه، فاتفق له أنه حمل في يوم من الأيام حملة ثقيلة، وكان ذلك اليوم شديد
الحر فتعب من تلك الحملة وعرق واشتد عليه الحر فمر على باب رجل تاجر قدامه
كنس ورش وهناك هواء معتدل وكان بجانب الباب مصطبة عريضة، فحط الحمال حملته
على تلك المصطبة ليستريح ويشم الهواء».
الحمال هذا، الذي يُدعى كذلك السندباد البري، يجلس أمام قصر السندباد البحري. لقد أنهكه المشي على البر تحت شمس محرقة وها هو الآن يجلس في الظل ليستريح، قبل أن يستأنف حمل أثقاله. المكان الذي اختاره للجلوس مصطبة تفصل بين عالمين عالم البر وعالم البحر، أو عالم الفقر وعالم الغنى. إن ما يتوق إليه الحمال هو البحر، وهو الآن على الشاطئ، في مكان مرشوش بالماء يهبّ عليه هواء معتدل. فوق المصطبة تم اللقاء بين البر والبحر، بين عنصرين مختلفين البر هنا له صفات مكروهة بينما البحر له صفات محبوبة الحمال يترك وراءه بوجهه البر الملتهب ويستقبل بوج البحر الذي يرحب به برذاذه ونسيمه العليل.
المواجهة تتجلى عندما ينشد الحمال أبيات شعر يبدي فيها استغرابه من كون كل الخلائق من نطفة، ومع ذلك فهو في تعب زائد بينما صاحب المنزل الذي يوجد قبالته له ما شاء من بسط وعز وشرب وأكل. وحين يسمع السندباد البحري كلام الحمال، يرسل في طلبه. ولمّا اجتاز الباب الذي كان جالساً قبالته، يعني أنه انتقل من
فضائه المألوف الى فضاء غريب: فعند ذلك بُهت السندباد الحمال وقال في نفسه "والله إن هذا المكان من بقع الجنان".
لو بقي في الفضاء الأول لما كانت هناك حكاية، إذ الشرط الأساسي للحكاية هو الانتقال، أي اجتياز العتبة الفاصلة بين فضاءين. عندما يدخل الحمّال إلى الفضاء الغريب يتغير وجوده وتعريفه. الدّور المنوط به الآن هو الاستماع الى ما يرويه السندباد البحري. في
صباح كل يوم يقصد الفضاء الغريب وفي المساء يعود إلى فضائه المألوف. في الصباح يذهب إلى البحر وفي المساء يرجع إلى البر.
هذه الحركة الدورية نلاحظها بعينها في مسيرة السندباد البحري. لقد سافر سبع مرات من بغداد إلى بلدان بعيدة وغريبة، وكل سفر ينتهي بالإياب إلى بغداد الطواف شمسي، يبعد السندباد من نقطة في العالم ثم يعيده إليها، لكن حدث بعد السفرة السابعة أن الشمس لم تعد تنشط إلى الدوران. تجمّدت عند نقطة انطلاقها ولم ترغب في مبارحتها مرة أخرى. وبفقدان الحركة ينتهي السرد ولا يبقى إلا وضع نقطة الختام الجمود الذي أصاب السندباد هو في الوقت نفسه جمود السرد الذي يعيش بالحركة ويموت بالاستقرار.
حجّ السندباد سبع مرات ثم جلس في منزله يحكي مغامراته. وبعد سبعة أيام لم يبق له ما يحكيه ولم يبق لشهرزاد ما تحكيه عنه، فيتوقف كل شيء ويتحجر الأشخاص في انتظار الموت. هل معنى هذا أن عنصر البر انتصر على عنصر البحر وأن هذا الأخير تحوّل إلى ذکری تتردد کتردد الأمواج على الساحل ؟
نحن والسندباد - البر والبحر |
-
الإيهام والإبهام:
يُقارن الناقد عبد الفتاح كيليطو في بداية هذا المحور بين السندبادين البري والبحري؛ حيث يرى أنه رغم تعرف السندباد البري على الفضاء الغريب ورغم صحبته للسندباد البحري فإنه يبقى موسوماً «بالبري» و«بالحمّال». أما السندباد البحري فإنه ينتمي إلى الماء، ولكن سمة السندباد البحرية لا تطمس جانبه البري، كما أن السمة البرية لصاحبه لا تمنعه كلياً من الانجذاب إلى البحر. وإذا كان البر يضمن الاستقرار والاطمئنان فإن البحر يضمن الغنى ومشاهدة عجائب البلدان. لهذا فالتذبذب هو ما يميز السندباد الذي يضع رجلاً هنا ورجلاً هناك؛ عندما يكون في البر يشتاق الى البحر ويتنكر لعنصره البري، وعندما يكون في البحر يندم على مفارقته لبغداد ويتنكر لعنصره البحري.
بعدها ينتقل عبد الفتاح كيليطو إلى ذكر صفات العالم الغريب الذي يعرض أشياء تغري السندباد وأشياء يشمئز منها:
- الصفة الأولى تتعلق بحجم المخلوقات الذي يختلف عما هو شائع في العالم المألوف.
- الصفة الثانية للفضاء الأجنبي هي مزجه للمتناقضات والمتنافرات إذ تتجاور فيه أشياء نفيسة مع كائنات مخيفة.
- الصفة الثالثة هي وجود شعائر وعادات لم تكن تدور بخلد السندباد فيقشعر منها جلده ويشعر بالدوار تجاهها.
- الصفة الرابعة تتعلق بالتسمية. إذ أنّ العالم الغريب له خريطته الخاصة التي تختلف عن خريطة العالم المألوف. وقد يحدث أحياناً أن التسمية العامة المجردة تصدر عن الوهم والالتباس.
نحن والسندباد - الإيهام والإبهام |
-
السندباد الهوائي والسندباد التحت أرضي:
يُؤكّد الناقد عبد الفتاح كيليطو في هذا المحور على أنّ العلاقة بين البر والبحر أفقية بينما العلاقة بين البر والجو عمودية. وقد تتطور العلاقة العمودية إلى علاقة بين سطح البر وجوفه أي بين عالم الأحياء وعالم الأموات.
فالسندباد لم يكتفِ بركوب البحر بل جرب كذلك، ثلاث مرات صعود الجو، مرة على متن طير الرخ، ومرة على متن نسر، ومرة متشبثاً بأحد الرجال الذين تنبت لهم أجنحة كل شهر. وحسب ما يظهر من الحكاية السابعة فإن التحليق في الفضاء من عمل الشيطان، ولا ينبغي للإنسان أن يحاوله لأن فيه تجاوزاً للطبيعة البشرية. من طبيعة الطيور أن تصعد في الجو، ولكن على الآدميين أن يحجموا عن ذلك لأن فيه تطاولاً وشططاً وتحدياً للحدود المرسومة لهم. وبالفعل فقد كادت التحليقة الثالثة أن تنتهي بكارثة، فقد كاد السندباد أن يهوي إلى الأرض ويتكسر عقاباً له على غروره.
ومقابل ارتفاع السندباد ثلاث مرات إلى عنان السماء، فإنه نزل ثلاث مرات إلى عمق الأرض؛ لقد دُفن حياً مع زوجته الميتة في السفرة الرابعة، أما في السفرة السادسة والسابعة فإنه لم يجد طريقة تخلصه من الوحدة والضياع سوى ركوب فُلك صغير يسير مع التيار في نفق طويل تحت الجبل.
مما سبق يمكن أن نستنتج أن السندباد، بانتمائه إلى عالمين مختلفين، قد صار وسيطاً بينهما. وبفضل أسفاره التي تنقله من أفق إلى أفق، تَأَهّل لأن يكون سفيراً بين بغداد (رمز الفضاء المألوف) وأقطار الغرابة.
id="4" نحن والسندباد - السندباد الهوائي والسندباد التحت أرضي |
-
المقايضة:
يُشير الناقد عبد الفتاح كيليطو في بداية هذا المحور إلى أنّ عملية السرد أحيانا تتحول إلى عملية تعاقد (ضمني أو علني) بين راو ومستمع. كِلا الطرفين ينتظر من الآخر شيئاً : المستمع ينتظر من الراوي حكاية شيقة، والراوي ينتظر من المستمع أن يعفو عنه أو بصفة عامة، أن ينقله من حالة سيئة إلى حالة محمودة. للسرد سلطة عجيبة لا تقاوم، ووظيفة هي إعادة التوازن لعلاقة مختلة. هذا النوع من التعاقد نجده بالطبع في حكاية السندباد ولكن علاقة القوة بين الراوي والمستمع معكوسة هنا. في جل حكايات ألف ليلة يكون المستمع شهريار (مثلا) هو القوي المسيطر، ويكون الراوي (شهرزاد) هو الضعيف الخاضع الذي يلتمس العطف والرحمة، لكن في حكاية السندباد نجد نقيض هذا : السندباد البحري الرجل القوي (الغني) هو الذي يقوم بالسرد، بينما السندباد البري، الرجل الضعيف (الفقير) هو الذي يتلقى السرد.
ويطرح الناقد عبد الفتاح كيليطو بعد كل هذا سؤالا عن ثمن الإصغاء: ما هو ثمن الإصغاء ؟ لِيُجيب مباشرة عن سؤاله المطروح، بأنّ السندباد البري ينصت إلى حكايات السندباد البحري وينال كل ليلة مكافأة جزاء له على إنصاته وإصغائه. الإصغاء يقدر بمئة مثقال ذهباً، بالإضافة إلى عشاء فاخر. عندما دخل الحمال في علاقة تبادل مع السندباد انتقل من الفقر إلى الغنى، فالتبادل يؤدي إلى التبدل.
ويُضيف الناقد: أنّه ينبغي أن نشير إلى أن السندباد لم يرو للحمال فقط ما جرى له. لا ننسى أنه تاجر وأن التجارة، بجانب الفرجة، هي الغرض من أسفاره. عندما يسعفه الحظ (البحر) فإنه يتاجر بالبضائع التي حملها معه من بغداد. ولكن ماذا يفعل عندما يغرق مركبه وتضيع أمتعته ولا ينجو إلا بأعجوبة من الغرق ؟ هل يفقد صفة التاجر ؟ لا، لأنه يستدرّ عطف الناس بسرد ما وقع له؛ أي أنه يُتاجر بالخطوب التي لقيها. عندما يُتلف البحر جميع ما يملك فإنه يُرقّع حاله بالسرد، وبعد مدة يصير من جديد غنياً.
لِيَخلص الناقد عبد الفتاح كيليطو في نهاية هذا المحور، إلى أن السرد إذن، سلعة يجدها السندباد دائماً رهن إشارته عندما يفقد سلعه الأخرى. في وسعه دائماً أن يروي كيف ضاعت منه سلعه وكيف صار معدماً، ومقابل حكايته ينال الخير العميم. وبفضل ما تُدرّه عليه حكايته من مال يشتري سلعاً جديدة ويعود إلى الاتجار والمقايضة.
نحن والسندباد - المقايضة |
-
السندباد العربي:
يتساءل الناقد عبد الفتاح كيليطو في هذا المحور عن معنى التوبة الصادقة التي أعلنها السندباد في نهاية مطافه : «ثم إني تبت إلى الله تعالى عن السفر في البر والبحر بعد هذه السفرة السابعة التي هي غاية السفرات وقاطعة الشهوات». هل السفر من المحظورات ؟ ما هو الذنب الذي اقترفه إن ما تاب منه السندباد هو فتنة العالم الغريب والنزعة إلى الذوبان فيه الهلاك الذي يتهدده في البحر هو الاستسلام إلى إغراء «الآخر» والتنكر للمنبع والأصل في كل سفرة تختلط عليه المسالك ويكاد أن لا يعود إلى ذويه. التوبة هي الأوبة إلى بغداد، إلى النقطة التي كان منها انطلاقه إلى البداية.
لكن الوفاء لعالم الألفة لا يعني الانفصال الكلي عن عالم الغرابة. وإلا فلماذا
يشعر السندباد بحاجة ملحة إلى رواية تجاربه ولماذا صار كل من سمع بقدومه يجيء
اليه ويسأله عن حال السفر وأحوال البلاد فيخبره ويحكي له ما لقيه وما قاساه ؟
حكاية السندباد بمثابة حوار، أو جدل بين الانغلاق والانفتاح، تماماً كالثقافة
العربية المعاصرة لها (الجاحظ مثلا) التي تتميز بالالتحام بين عناصر مألوفة
وأخرى غريبة، بين البر والبحر.
واليوم من ينكر أن السندباد لا يزال يخاطبنا عبر القرون ويسألنا عن علاقتنا بالعالم المألوف وبالعالم الغريب (الغربي)؟ لقد كثر حفدته على الخصوص منذ عصر النهضة (انظر على سبيل المثال الساق على الساق لأحمد فارس الشدياق وحديث عيسى بن هشام للمويلحي) وليس في الأفق ما ينبئ بأن عهد «السنادبة» قد انتهى. بصفة أو بأخرى كلنا اليوم، في العالم العربي، سندباد.
نحن والسندباد - السندباد العربي |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق